رسالة مفتوحة الى السفير الامريكي يكتبها الدكتور الدرديري محمد أحمد
سعادة السفير جون غودفري،
أولا لابد لي في صدر رسالتي هذه ان ارحب بك وارجو لك التوفيق في تحسين علاقات بلادك ببلاد السودان. فتحسين العلاقة بالبلد المضيف هي المهمة التقليدية النبيلة لأي سفير في أي زمان وفي أي مكان. ثم انني لأرجو ان تطّلِع على رسالتي المفتوحة هذه وتوليها ما تستحق من عناية. فهي تعبر عن الكثيرين ممن لا تحفل بلقياهم. ولا سبيل للنجاح في مهمتك هذه دون ان تضع وجهة نظرهم في الاعتبار.
عندما غادر سلفكم السفير تيم كارني، آخر سفير امريكي، موقع عمله في اغسطس 1998، كان مبعوثا لبلاد تختلف تماما عن تلك التي تمثلها انت اليوم. فقبل ربع قرن من الزمان كانت أمريكا هي سيدة العالم بلا منازع. حينها قالت عنها وزيرة خارجيتها مادلين اولبرايت بعنجهية عجيبة “نحن الدولة التي لا يقضى دونها أمر. فنحن نشمخ فوق الجميع ونستشرِفُ من آفاق المستقبل ما لا يراه الآخرون”! أما بلادك اليوم فهي التي يحاول الرئيس ترامب جاهدا ان يجعلها عظيمة “مرة أخرى” كما يقول الشعار الذي اطلقه في حملته الانتخابية عام 2016. ولم يطلق ترامب ذلك الشعار الا لأنه يعلم جيدا ان امريكا اليوم لم تعد عظيمة البتة. فهي امريكا المنقسمة داخليا، والمتراجعة دوليا، والمنهارة اقتصاديا، والساقطة اخلاقيا! بل هي امريكا التي تقول كلمات بعض اهازيجها الشوفينية التي يرددها غلاة البيض: “هناك حرب لابد من خوضها في هذه البلاد، ضد هؤلاء الذين تجرأوا كثيرا”. لا اظن انه يحق لسفير بلاد مثل بلادك ان ينبري واعظا كما فعلت في اول مقابلة صحفية. ولهذا عنّ لي ان اسطر لك هذه الرسالة لأذكرك بثلاثة فقط من جملة الاختلافات المزلزلة والمنذرة بنهايات حتمية apocalyptic) كما تقولون( التي اجتاحت بلادك خلال ربع القرن الاخير. ذلك حتى تعلم ان بلادك لم تعد، بعد هذه التطورات السلبية، مؤهلة اخلاقيا لأن تعظ احدا، فيطامن هذا من بعض غلوائك. ثم أختتم هذه الرسالة بالاشارة لملمح واحد يميزنا مما ارجو أن تتبينه وتتأمله ملياً وانت في مستهل مهمتك.
نحن نعلم يا سعادة السفير انك تجيئ الينا من بلد تدهورت فيه الظروف الاقتصادية والاجتماعية لمن هم في ادنى السلم لدرجة مريعة. فأنت لا تجيئنا من بلاد الفرص والحريات التي كانت والتي جاءنا منها سلفك من قبل. اذ ضاع ذلك النموذج بعد ان تحكمت في امريكا قلةٌ بالغة الثراء. وفي محاولةٍ لانقاذ امريكا من الورطة التي ادخلتها فيها هذه القلة تقدم أحد ألمع فلاسفتكم المعاصرين، جون راولز، بمقاربة واقعية. قال راولز ان عدم المساواة inequality واقع لا فكاك منه، فالمساواة المطلقة ليست مطلوبة او ممكنة. وانما المطلوب ان يكون عدم المساواة منصفاً (just inequality). غير ان امريكا فشلت حتى في استيفاء هذا الانموذج المُخفَّف. فهي تعد اليوم المثال الاول عالميا “لإنعدام المساواة الظالم” (unjust inequality).
ولقياس درجة الانصاف حال انعدام المساواة، يُقسِّم المختصون المجتمع الى طبقتين: طبقة أعلى هي طبقة القلة الاوفر ثراء، وهم بنسبة (1%) من المجتمع. وطبقة أدنى هم النصف الاكثر فقرا، وهم بالتالي (50%) من المجتمع. فاذا وجدنا ان حقوق المنتسبين للنصف الادنى في تحسن وحظوظهم في ارتقاء سلم الثراء والجاه موفورة، اعتبرنا هذا الصِنف من انعدام المساواة منصفا. اما اذا كانت حظوظ الفقراء آخذة في التراجع، ولم تعد لهم فرصة مساوية لتلك التي كانت من قَبل للاثرياء، فان هذا الصِنف من انعدام المساواة يعد ظالما. خلال ربع القرن الماضي تدهورت حظوظ من هم في القاع في امريكا بينما تحسنت حظوظ من هم في القمة بإضطراد. اذ ظل متوسط الدخل السنوي للنصف الادنى للمجتمع في امريكا ثابتا عند 16.000 دولارا، بينما قفز متوسط دخل القلة المحظوظة خلال ذات الفترة من 420.000 دولارا الى 1.300.000 دولارا!
لهذا الاختلال الاقتصادي والاجتماعي آثاره السياسية والاخلاقية. اذ ادى الى ما عرف باستبداد المال tyranny of money. فما صُرف في الانتخابات الرئاسية لعام 2000 (التي اعقبت انصراف سلفك عنا) كان 4 بليون دولارا. اما ما صُرف في انتخابات 2022 (التي سبقت حضورك الينا) فكان 14.4 بليون دولارا! وقد علق مارتن زونيس الاستاذ بجامعة شيكاغو على تزايد انفاق الاثرياء الهائل على الانتخابات بالقول: “ان من يقدمون هذه البلايين ينتظرون بالطبع عائدا
لاستثماراتهم. ويحصلون عادة على ذلك العائد. فيمتنع الكونغرس عن اصدار التشريعات التي تحد من استخدام السلاح، ويُبقي على دعم صناعة السكر لحماية اصحاب المصانع والمزارع المترامية، ويُبقي على سياسات معينة تجاه اسرائيل يطلبها الممولون اليهود، ويُبقي على نظام تسعير الدواء لصالح كبار الشركات الصيدلانية، ويُبقي على العديد من المسائل الاخرى التي تعبر عن انشغالات ممولي الحملات الانتخابية وليس عن رغبات الناخبين العاديين او حتى اعضاء الكونغرس”. وقد ادى استبداد المال الى تراجع نسبة ثقة المواطن الامريكي في الكونغرس من 42% عام 1973 الى 7% في العام الماضي. قال استاذان في جامعة برينستون، هما آن كيس وأنقس دايتون، في دراسة مشهورة ان استبداد المال هو الذي قاد الى انهيار الطبقة العاملة من البِيض محدودي التعليم. فبعد ان كانوا هم اساس الحلم الامريكي تحولوا اليوم الى بحر من اليأس sea of despair ينتج افعالا محمومة مثل الهجوم على مبنى الكابيتول، مقر الكونغرس الامريكي، في يناير 2021. بل انهارت ثقة المواطن الامريكي في كامل مؤسسات بلاده. فالثقة في المحكمة العليا تراجعت الى 25%، وفي الصحافة واخبار التلفزيون الى 16%، وفي النظام العدلي الى 14%! هذا هو الاختلاف الأول. اما الاختلاف المزلزل الثاني فهو ان امريكا لم تعد تنطوي على مشروع استراتيجي او رؤية كلية.
اما ثالثة الاثافي فهي ان امريكا، وبسبب استبداد المال وغياب المشروع معا، لم تعد قادرة على مواصلة مهمة قيادة البشرية. فها هي تفشل في تقديم النموذج حين تضرب الازمات الطبيعية الساحقة مثل التغير المناخي، او الجوائح الماحقة مثل كوفيد 19. اذ اختطفت الشركات الكبرى الموقف الامريكي بشأن هذه الظواهر الكونية. قارن بين اداء امريكا والصين في مواجهة فيروس كورونا. فقد مات في هذه الجائحة مليوناً من الامريكيين، بينما لم يتجاوز موتى الصين خمسة آلاف! بل كانت امريكا في امس الحاجة للاغاثة شأنها في ذلك شأن دول العالم الثالث. ومما سلّى الكثيرين اثناء فترة الحجر الصحي ان تابعوا بتعجب هبوط طائرة في مطار جون كينيدي بنيويورك قادمة من شنغهاي وهي تحمل 12 مليون قفاز و130 الف كمامةN95 و1.7 مليون كمامة طبية و50 الف رداء طبي و130 الف وحدة تعقيم يدوي و36 الف ثيرموميتر، عونا انسانيا من الصين لامريكا!!! تلك الرحلة العجيبة حَرِيةٌ بان يؤرخ بها لنهاية دولة عظمى افتقدت مبررات البقاء، ولصعود اخرى بديلة تأخذ رويدا رويدا بأسباب السؤدد. بل انسحبت الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية في ذلك الوقت الحرج، رغم كونها أكبر مموليها. كما تخلفت الولايات المتحدة عن التصدي للريادة في المنظمات والانشطة متعددة الاطراف. انظر الى تراجع دور الجمعية العامة للامم المتحدة وتحولها الى سوق عكاظ عالمي تعرض فيه القدرات الخطابية كل عام ليس غير. هذا بعد ان كانت هذه المنظمة هي ضمير البشرية الحي.
في المقابل، فلتعلم يا سعادة السفير ان الرياضة التقليدية المفضلة لدينا تسمى “شَدّت”. وهي رياضة تمارس في طول البلاد وعرضها. غير انها على جمالها وامتاعها لم تجد من يُعنى بها فيضبط قواعدها وينظم منافساتها مثلما فعلتم انتم مع كرة القدم الامريكية. المطلوب من اللاعب في هذه الرياضة ان يعطل رجلا ويدا قبل ان يدخل الملعب. فيمسك قدمه اليمنى بيده اليسرى ولا يجوز له افلاتها. فمنازلة الصديق والنديد عندنا لا تكون بكامل القوى الجسمانية وانما بنصف القوة. ولا يعلن قائد الفريق في “شدّت” انطلاق اللعب، بقول كلمة “حارّة”، الا بعد تأكده من ان جميع اعضاء الفريق قد استقاموا ممسكين قدما بيد. فاذا ما انفلتت رِجل احدهم اثناء اللعب ولو للحظة اعتبر “ميّتاً” وخرج من الميدان. هذه اللعبة هي بنت المزاج السوداني المتريث والمتلطف الذي تشكل على نارهادئة على مدى ثلاثة الاف عام. فاذا فهمت يا سعادة السفير هذا المزاج تدرك لماذا ادرنا حروبنا الاهلية بغير ضراوة زائدة. بل ادرناها بغير مرارات. واذكر جيدا ان المراقبين الاجانب لمفاوضات السلام كانوا ليعجبون من عناق الغرماء السودانيين بعضهم بعضا. واذكر كذلك ان أليجا مالوك القائد الجنوبي المقرب للدكتور جون قرنق قد سؤل ذات مرة، ابان مفاوضات السلام بكينيا (وبُعيد اختطاف مخابرات دولة اوروبية اسيوية لاحد الخارجين عليها من نيروبي)، عما اذا كانت حركته تخشى من اختطاف قرنق او قتله في نيروبي. فقال جازما لن يحدث ذلك بل هو مستحيل! ثم اضاف ان السودانيين يتقاتلون بشرف في الميدان لكنه لا يطعن بعضهم بعضا في الظهر بعد انتهاء المعركة! ولهذا انظر يا سعادة السفير في عددِ من مات من السودانيين في حروبنا التي تطاولت لثلاثة عقود والتي استخدمت فيها اسلحة القرن العشرين الآلية، وقارنه بعدد من ماتوا في الحرب الاهلية الامريكية التي دارت رحاها لاربع سنوات فقط وباسلحة القرن التاسع عشر الأقل فتكاً. فاذا مات في الحرب الامريكية 2% من الشعب الامريكي فان هذا يعني انه كان ينبغي ان يهلك في حروبنا 15% من الشعب السوداني على الاقل، اي نحوا من خمسة او ستة ملايين!
ولأننا نواجه بعضنا بعضا بيد واحدة ورجل واحدة فاننا لم نفقد من الضحايا في التغيير الاخير (ابريل 2019) ما كان يرجوه اعداءنا. ألا ترى يا سعادة السفير ان الدكتور محمد طاهر ايلا، آخر رئيس وزراء للرئيس البشير، قد اجل عودته اعواما عدة رغم شعبيته العارمة التي رأيتها بالأمس. ثم ألا تراه يا سعادة السفير يعود لبورتسودان بينما لم يعود رياض حجاب الى دمشق، ولا ابوبكر العطاس الى عدن، ولا البغدادي المحمودي الى طرابلس. وألم تعلم يا سعادة السفير ان الرئيس نميري عاد للخرطوم واستقبله المشير سوار الدهب بحفاوة. وألم تعلم انه رغم هتاف “لن ترتاح يا سفاح”، الذي اطلقه الحزب الشيوعي في سبعينات القرن الماضي، صلَّى محمد ابراهيم نُقُد سكرتير ذلك الحزب على جنازة نميري ودعى له بالمغفرة والراحة الأبدية. ثم ألم تعلم ان من أمّ المصلين في جنازة نُقُد هذا كان هو الدكتور حسن الترابي! وارجو الا تفوتك مشاهدة مقطع فيديو واسع التداول اراد فيه المحاور ان يغمز من قناة الرئيس البشير لدى الامام الصادق المهدي، وهو في قمة معارضته، مشيراً الى ما سماه “رقص” البشير. قال له الامام ان ذلك ليس رقصا وانما هي “عرضه” (أي استعراضاً رجولياً) تسمى “الصقرية”!
ارجو ان تكون قد فهمت يا سعادة السفير اننا نلعب “شدّت”. ومن ثم لسنا بحاجة اصلا لحَكَم كرة قدم امريكية.