جدل سد النهضة الإثيوبي ينتقل من السياسي إلى الفني في مصر
خلت التصريحات المصرية حول أزمة سد النهضة من المضامين السياسية بعد حديث إثيوبيا عن تفريغ الممر الأوسط من المياه قبل أيام إيذانا بالاستعداد للملء الثالث في أشهر الفيضان المقبلة، يونيو ويوليو وأغسطس.
وركزت غالبية تعليقات الخبراء في القاهرة على الأمور الفنية بما يشير إلى عدم قدرة أديس أبابا على تحقيق أهدافها بشأن النسبة المقررة على غرار كل من الملء الأول والثاني أو توليد الكهرباء من التوربين الذي جرى تركيبه الشهر الماضي.
ويقول متابعون إن التجاهل السياسي الظاهر في الوقت الراهن ينطوي على إشارة بأن هناك جهودا يبذلها بعض الوسطاء لتقريب المسافات بين كل من مصر والسودان من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى، خاصة أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد عاد للتمركز مع خطاب السلام والتخلي عن التصعيد الذي تبناه مؤخرا.
ويضيف المتابعون أن التركيز على الجوانب الفنية من قبل مصر يعني تأييدها لمسار وساطة غير معلنة تقوم بها دولة الإمارات العربية المتحدة التي استقبلت في الآونة الأخيرة، بصورة منفردة، كلا من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ورئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان.
التجاهل السياسي الظاهر ينطوي على إشارة بأن هناك جهودا يبذلها وسطاء لتقريب المسافات بين الأطراف المعنية
وتحدثت مصادر سودانية الخميس عن ترتيب محادثات بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة تجرى برعاية الإمارات التي تتمتع بعلاقات جيدة معها، يشارك فيها ممثلون من وزارتي الري والخارجية ومسؤولين من أجهزة أمنية بالدول الثلاث.
وتفك هذه المعلومات ألغاز الهدوء المصري النسبي وتفسر أسباب التركيز على الشق الفني، حيث يراود القاهرة أمل في نجاح دور أبوظبي في العودة إلى طاولة مفاوضات منتجة بعد أن جربت مصر وساطات أفريقية وتدخلات دولية بلا نتيجة، وتيقنت أن اللجوء إلى مجلس الأمن وسط التباين في مواقف القوى الكبرى لن يكون مجديا.
وأصبحت القيادة المصرية أمام مسؤولية تاريخية، حيث يرى مواطنون أن أديس أبابا ماضية في خطتها لتشييد مشروع سد النهضة بلا هوادة، بينما القاهرة صامتة.
وأدت هذه التصورات إلى تسرب اليأس إلى البعض مع ندرة المعلومات حول ما يتم اتخاذه من خطوات مصرية غير معلنة، ويعتقدون أن تجاهل الجوانب السياسية والتركيز على الفنية يعني سقوط الخط الأحمر الذي وضع حول مصير الإضرار بالمياه.
وزاد الجدل في مصر مع الإعلان عن تمرير المياه من الممر الأوسط للسد أخيرا كعلامة على أن أديس أبابا غير معنية بموقف القاهرة أو الخرطوم، أو أن ثمة تفاهمات معهما على أن تمضي بموجبها الأولى في طريقها طالما أن خطواتها لن تتسبب في ضرر لهما، وهو ما يستلزم التعليق عليه فنيا بلا إنزعاج سياسي واضح منهما.
وأعلن رئيس الوزراء الإثيوبي في العشرين من فبراير الماضي البدء في إنتاج الطاقة الكهربائية من سد النهضة وتدشين توربين لتوليد 375 ميغاوات، من إجمالي 13 توربينا سوف يتم تركيبها لتوليد نحو ستة آلاف ميغاوات من السد.
ورأت القاهرة أن الخطوة تكرس التصرفات أحادية الجانب، وقالت وزارة الخارجية المصرية في بيان لها في حينه إنها “إمعان من الجانب الإثيوبي في خرق التزاماته بمقتضى اتفاق إعلان المبادئ لسنة 2015″، ولم يصدر تعليق مماثل حيال عملية فتح الممر الأوسط أخيرا، والذي يعني أن الطريق بات ممهدا للملء الثالث.
وأكدت الخرطوم موقفها الثابت المتمثل في ضرورة الوصول إلى اتفاق قانوني بشأن ملء وتشغيل السد، وأن تركيب توربينات توليد الكهرباء وتشغيلها يشكلان خرقاً للالتزامات القانونية، من دون تعليقات رسمية أيضا حول فتح الممر الأوسط.
وبدت لهجة آبي أحمد عقب تدشين التوربين أقل تصعيدا مما سبق، حيث أشار إلى أن بلاده لا تستهدف الإضرار بمصالح دولتي مصب نهر النيل، ولم يتدخل بالتصريح أو التلميح السياسي في ما يتعلق بفتح الممر الأوسط وأهميته الحيوية.
وأعلنت أديس أبابا استكمال الملء الثاني في يوليو الماضي من دون تأكيد أنها قامت فعلا بتخزين 13.5 مليار متر مكعب من المياه المستهدفة في هذه المرحلة، تضاف إلى خمسة مليارات أخرى في الملء الأول.
وشكك خبراء مصريون في هذه الأرقام وقالوا إن ما تم تخزينه لا يتجاوز عشرة مليارات متر مكعب فقط في الملء الأول والثاني، ويصب التشكيك الفني في تخفيف الضغوط على الموقف الرسمي ويبرر عدم تصعيد القاهرة للأمر سياسيا.
ودعا بيان لمجلس الأمن الدولي في سبتمبر الماضي إلى استمرار المفاوضات بين الدول الثلاث برعاية الاتحاد الأفريقي بـ”طريقة بناءة وتعاونية.. وفي غضون فترة زمنية معقولة”، من دون الإشارة إلى سقف زمني محدد.
وتكاد تكون المفاوضات على المسار الأفريقي طواها النسيان، ولم تعد مصر تضغط لأجلها بعد فقدان الثقة في جدواها ولا يحاول السودان استدعاءها، ولا السنغال كرئيسة للاتحاد الأفريقي للدورة الحالية عابئة باستضافة جولة قريبا بين الدول الثلاث.
ونشر عباس شراقي، وهو أحد أهم الخبراء المصريين في المياه وأستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة على صفحته الخاصة على فيسبوك صورة بالأقمار الصناعية لموقع سد النهضة بشأن توقف المياه فوق الممر الأوسط.
وقال إن إثيوبيا فتحت بوابتي التصريف في الثاني عشر من مارس الجاري بعد فشل التوربين رقم 10 الذي أعلن عن تشغيله في فبراير الماضي في تمرير المياه الزيادة التي تعبر الممر الأوسط ويبلغ مقدارها حوالي 30 مليون متر مكعب يوميا خلال هذه الفترة، وعدم تشغيل التوربين الثاني حتى الآن.
القاهرة يراودها أمل في نجاح دور أبوظبي في العودة إلى طاولة المفاوضات بعد أن جربت مصر وساطات أفريقية وتدخلات دولية بلا نتيجة
ويشير فتح الممر الأوسط حاليا إلى بدء الاستعداد لعملية تعلية جديدة تحتاج لتصل إلى غايتها كاملة، أي نحو 30 مترا كي يصل الارتفاع إلى منسوب 595 مترا فوق سطح البحر، ويتم حجز 7 مليارات متر مكعب حتى منتصف أغسطس.
بعد ذلك تغمر مياه الفيضان الممر الأوسط كما حدث العام الماضي ليمر الفيضان إلى السودان ومصر، فضلا عن المياه التي تمر من التوربينين حال تشغيلهما تماما.
وتسعى إثيوبيا لرفع الممر الأوسط بمقدار 30 مترا ليصل إلى مستوى تخزين يبلغ 13.5 مليار متر مكعب، تضاف إلى المليارات الخمسة المخزنة من العام الماضي، ليبلغ إجمالي التخزين 18.5 مليار متر مكعب، مع توقع فقدان 3 مليارات متر مكعب نتيجة التبخر والتسرب في الفراغات والتشققات.
ورأى عباس شراقي أن إثيوبيا “قد لا تستطيع تعلية الممر الأوسط كاملا، والأقرب أن يرتفع نحو 15 مترا بسعة تخزينية حوالي 7 بدلا من 13.5 مليار متر مكعب”.
وقال إن التعلية هذا العام سوف تكون أقل من 5 أمتار وتخزين يبلغ حوالي 2 مليار متر مكعب، وفي حالة التعلية لما هو أكثر من ذلك من الضروري أن تشمل الجانبين الأيمن والأيسر بالقدر نفسه، ما يصعب تنفيذه حتى أغسطس المقبل، لأن التعلية بمقدار متر واحد تتطلب 60 ألف متر مكعب خرسانة.
ولا يمثل الاستغراق في الأمور الفنية للسد أهمية بالنسبة إلى المصريين، لأنه يؤكد استكمال المشروع بالطريقة التي تريدها إثيوبيا، ومهما كانت عثراتها في هذا المجال فقد فرضت إرادتها السياسية، وهي الزاوية التي يبحث مصريون عن رد عليها